ها أنا ذا جالس على مكتبي ، في غرفتي الخالية مما سواي ، في شقتي الخالية أيضا مما سواي ، ألفت صوت الريح المار خلال نوافذها ،
حتى صرنا كالأصحاب يحن أحدنا للآخر ، يفتك بي بين الفينة والأخرى وحش الغربة ، ويدمع قلبي أني ألفت تلك الغربة وألفتني هي بدورها ،
غريب أنا في بلدي !! نعم ! غريب ، فما قيمة الحياة في بلدي من دون أهلي ؟! ، من دون أبي وأمي ؟! ،
من دون إخوة صغار لي ألاعبهم وأدخل على وجوههم البسمة البريئة ، من دون أخت لي تشاورني وأشاورها ؟! ،
لقد أدركت أن قمة عذاب الغربة هي ان تكون فيها لوحدك ، تحاول طرد ظلامها فلا تقدر ، وكلما أردت فك عقدتها ازدادت تعقيدا ! ،
قديما قيل لي أن لا أحد يستطيع أن يشعر بآلامك وكنت أرفض تلك الفكرة ، أما الآن فأنا أراها حقيقة ماثلة أمام عيني لا تفارقني ،
فالناس تريد مني البسمة والضحكة فقط وأن تسمع منهم أفراحهم و أتراحهم ،
وكنت دوما أفعل ذلك وأغالب ألامي وأحزاني علِي أجد من يسمعني عندما أشكو وابث أحزاني ، لكني اكتشفت أن كل هذا محض أوهام وأني كتب علي أن أشقى لوحدي .
عندما تكون وحيدا في غربتك ، تستأسد عليك الأقدار ، حاولت الهروب كثيرا لكنني وجدت المواجهة ماثلة أمامي
فإما الانتصار أو الإنهيار ، وفي كلتا الحالتين لابد من دفع فاتورة الأقدار ، جربت جميع الأصحاب علَهم يكونون لي أعوانا ،
فما وجدت فيهم إلا ميزان المصالح والغايات ، لا أدري ؟ أكل الناس هكذا! أم أني لا أجيد الإختيار ، كل الأشياء تغيرت في غربتي حتى أفكاري وآرائي ،
تغير حتى شكلى ، تغيرت مشاعري ، تبلدت ! ماتت ! ، في كل لحظة تمثل أمام عيني حقيقة أني بدأت أتحول ، لست أنا أنس الذي أعرف ؟!! ،
أين رهفة القلب ؟! ، أين رقة المشاعر ؟! ، أين حلاوة الإيمان ؟! ، أين؟ أين؟ ، إني أرى نفسي تسرق أمام عيني !! ، لكن لا أستطيع منع السارق ،
إذ أن السارق هو الغربة ، تقرع نفسي تساؤلات لا أجد لها جوابا !! ، هل التخلي عن نفسي ضريبة الغربة لكي أتوافق معها ؟! ،
لا أدري .
أهلي في الجانب الآخر ، في غربة أخرى ، هم أيضا فارقوا الأهل والأحباب منذ سنين ، حتى ألفو الغربة و ألفتهم ، و أنا بين غربتين أتقلب ! ،
فإما غربة عن أهلي ! وإما غربة عن وطني ، وكلاهما مر ، أهلي أيضا لا يريدون ما ينغص عيشهم ، يكفيهم سنين غربتهم ،
فهم لا يريدون أن يسمعوا مني إلا عبارة (كله تمام)! إذا هاتفتهم ، وأنا أيضا أنأى بنفسي أن أسمعهم غيرها ،
إذ ما ذنبهم أن أحملهم ألاما فوق آلامهم ، فيكفي أن نار البعد تأكل قلوبهم ، وهم يرون إبنهم البكر يصارع الحياة بعيداً عن أنظارهم ن نعم فاتورة الغربة غالية غالية ! ،
لكن عبارة قالها لي والدي عن الغربة مازلت تخفف عني بعض آلامها ، قال لي : ياولدي إنها تصنع رجالا ! ،
نعم يا أبت تصنع رجالا لكنهم رجال بلا قلوب ، نعم صنعت رجالا لكن قتلت فيهم كل معاني البراءة والإنسانية ،
جعلتهم وحوشا تفتك بكل من يقف في طريق مصلحتها ، ترى يا أبت هل ينفك كابوس الغربة عني ؟! ، لا أدري !! لكن الذي أعرفه أن صبري قد نفذ .